الاعتذار
لماذا نتردد كثيرا في المبادرة بالاعتذار؟
أليس بالاعتذار يزداد المعتذر رفعة وسموا ؟
قد يقول قائل: لمن يُقدر ذلك!
أقول: من قال لك بأن الناس لا تقدر منك ذلك ؟ وهل بحثك عن تقدير الناس مقدم لديك على حب الله لك ورفعتك عنده؟
من الذي أفهمنا هذا الفهم الخاطئ بأن الخطأ لابد أن يكون 100% علي حتى أعتذر ؟
وهل لو كان نسبة الخطأ علي بـ40% والآخر عليه 60% .. هل انتظر منه أن يبادرَني بالاعتذار أم أسبقه أنا بالاعتذار حتى أنال أجر الاعتذار الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)..
– أنا آسف .. أنا أخطأت.. أنا أعتذر.. سامحني .. أعتذر منك..
كلمات لا يبلغها إلا الرجال الحقيقيون، الذين لا يستنكفون عن أن يُقِرُّوا بأخطائهم، ويعترفوا بتقصيرهم، لا يرون في ذلك ذلاً أو غضاضة، بل يرونه عزًا ورفعة وقوة وسموا، ولا يرون فيه قصوراً، بل يرونه كمالاً.
فلنسارع أحبتي بالاعتذار قبل أن يأتي يوم لا نستطيع أن نعتذر (هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون)..
الخلاف حدث يا أحبة بين أفضل صحابين رضي الله عنهما وهذا ردٌ على من يحسب أن الخلاف لا يكون بين القدوات والقامات!
الخلاف حدث بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولكن كان هناك الاعتذار، والاعتذار يكون من الأفضل..
عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: (كنت جالسًا عند النَّبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر. فسلَّم، وقال: إنِّي كان بيني وبين ابن الخطَّاب شيء، فأسرعت إليه ثمَّ ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى عليَّ، فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر. ثلاثًا، ثمَّ إنَّ عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا. فأتى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فسلَّم، فجعل وجه النَّبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر ، حتى أشْفَق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم. مـرَّتين، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كَذَبْت. وقال أبو بكر: صَدَق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مـرَّتين، فما أُوذي بعدها).
قال العيني: “حتى أشْفَق أبو بكر” أي: حتى خاف أبو بكر أن يكون من رسول الله إلى عمر ما يكره.
الخطأ يحدث بين كبار الصحابة وصغارهم يحدث بين العلماء بين الأمراء بين القدوات بين الأتقياء بين جميع الناس.. الخطأ يحدث، ولكن يتبعه الاعتذار، لأن الاعتذار يقي الناس من الهلاك لأن الاعتذار يصفي القلوب، الاعتذار يورث مودة الله، الاعتذار يورث التواضع، الاعتذار يشجع على فعل الخير، بل إن التراجع عن الخطأ بالاعتذار، خير من التمادي في الباطل بالاستكبار، ومن أنصف الناس من نفسه، لم يزده الله تعالى إلا عزًّا.
لقد أصّل رسول الله صلى الله عليه وسلم لثقافة الاعتذار بين الناس بما يبعث بينهم المحبة، ويزرع فيهم الثقة والمودة، فنهى عن الهجر فوق ثلاث ليال، وجعل لمن بادر بالاعتذار وإلقاء السلام الفضل والرفعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).
إن الاعتذار مظهر حضاري، يدل على احترام الإنسان لنفسه، وتقديره لغيره، فلا ينبغي لعاقل أن يتعالى عنه، فقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أعقل الناس أعذرهم لهم).
وقد تجلت حضارة المسلمين وكانت القوة في أيديهم عندما فهموا بصدق وإدراك أنهم يعيشون من أجل رضاء الله ومن أجل ترسيخ دين الله الذي لن يقام إلا على ميزان العدل.. يدخل قتيبة الباهلي إلى سمرقند فيهلل ويكبر فرحا بالفتح، فتصل الشكاية إلى عمر بن عبد العزيز بأن جيش المسلمين دخل من دون توضيح شروط المسلمين للدخول.. فما كان من جيش المسلمين إلا أن يعتذر بأكمله اعتذارا عمليا بخروجه من سمرقند بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز بعد أن وصلت إليه الشكاية، فحكم القاضي بخروج جيش المسلمين.. فكانت النتيجة أن أهل سمرقند رفضوا أن يخرج من ديارهم من يقيمون ميزان العدل فيما بينهم وبين أعدائهم وبين الناس جميعا.
ما أجمل أن تنتشر ثقافة الاعتذار في بيوتنا، فيعتذر الزوج لزوجه، وتعتذر الزوجة لزوجها، إن بدر من أحدهما خطأ، وذلك بكلمة تبعث في نفس الطرف الآخر الرضا والقرار، وتشعره بإعادة الاعتبار، وتوثق بينهما عرى المحبة والاستقرار، وقد روي عن أبي الدرداء أنه قال لزوجته أم الدرداء رضي الله عنهما: (إذا غضبتِ أرضيتك، وإذا غضبت فأرضيني، فإنك إن لم تفعلي ذلك فما أسرع ما نفترق). وبذلك يكون الأبوان قدوة لأولادهما في الاعتذار والعفو والتسامح، والحب والتصالح.
إن الاعتذار شجاعة لا تقلِّل من قيمة المرء، بل تزيده مكانة ورفعة، ولو كان من أب لابنه، أو أستاذ لطالبه، أو مدير لموظفه، فهذه مروءة وشهامة ونبل وكرامة.
ولنحذر من ترك الاعتذار مظنة شماتة المُعتذر له ونشر ذلك بين الناس.. فثق تماما أخي أن كل ذلك ظن من تلبيس الشيطان حتى لا تحرك شفتيك بالاعتذار.. وإن حدث ذلك فأعتقد أنه لا يهمك ذلك لأنك تعتذر إرضاء لله وثق تماما بربك لأنك ستنهل من اعتذارك كل ألوان الخير في الدنيا والآخرة.
الاعتذار يكون بعبارات جميلة، وكلمات حسنة رقيقة..
يقول محمد الإسحاقي :
إذا اعتذر الجاني محا العذرُ ذنبَه *** وكان الذي لا يقبلُ العُذرَ جانيا
وصدق الله إذ يقول: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عظيم).
ومما يدمي القلب ، ويفطر الفؤاد كمدا أن هناك من يجلس بيننا ويصلي معنا وهو يعاند ويكابر ويصر ويستكبر في أن لا يطلق شفتاه ليعتذر لوالداه.. عجيب أمر هذا الذي لا يريد أن يقول: أمي أنا آسف، أبي أنا آسف..
– لماذا لا تعتذر؟..
يقول: وما يدريك أيها المسكين ماذا قال لي والدي ماذا فعلت في أمي؟..
هل هناك أشد من هذا الظلم؟ لا حول ولا قوة إلا بالله هل فعلوا كل ذلك.. نعم وأشد.. وهل تعلم ما هو المطلوب منك أم نسيت؟ الله يخبرك لو أنهم فعلوا أشد ألوان الظلم ليس بأمرك أن تزني أو أن ترابي كلا بل أمروك أن تشرك بالله ليس ذلك فقط بل أخذوا يمارسون معك شتى أنواع الضغوط لتشرك بالله: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا..) لو ظلموك أشد ألوان الظلم فعليك أن تحاور بأدب وتتكلم بأدب وتتحدث بأدب وتذهب إلى من يستطيع أن يؤثر عليهما .. والمطلوب منك أن تكون بارا بهما قولا وفعلا والله يتولى الحساب يوم القيامة..
الاعتذار يمحو الذنوب ..
(فمن عفا وأصلح فأجره على الله)
(ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)
اللهم طهر قلوبنا..
تعليقات
إرسال تعليق