الدنيا
تحدث بعض الخلافات من بعض البشر في صناعة هويتهم في هذه الحياة، فهناك من يقدم فك أسر شهواته من قيودها ليفعل ما يشاء كيفما يشاء من دون مساءلة من أحد.
وهناك من يأسر نفسه ويقيدوها بتفكيره النمطي وتقيده القبلي! والناس تختلف في أنماطها هذه وذلك لعدم معرفتهم لماذا خلقوا في الدنيا:
فهناك من يرى أنه خلق لأن الحياة فرصة وقد سخرت ليستثمرها كيفما يشاء..
وهناك من يرى أنه خلق للمتعة بجميع ألوانها..
وهناك من يرى أنه خلق في دار بلاء وامتحان.. وهنا تظهر الحقيقة التي يغفل عنها بعض الناس (الذي خلق الموت والحياة- لماذا يا رب؟- ليبلوكم أيكم أحسن عملا).
إذا نحن في دار بلاء واختبار عندما نتعرف على حقيقة الدنيا .. عندها نحدد ما نفعله فيها، مع بيان أن البلاء الذي نحن فيه لا يعني أن الإنسان يعيش مقطب الجبين تعيس الحال والمحال؛ فإن من يفعل ذلك فقد خالف هدي المصطفى صل الله عليه وسلم الذي هو أشد الناس بلاء، عن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه ” ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم “، مع شدة البلاء والتبسم لا يفارقه صلوات الله وسلامه عليه.
الحياة حلوة وجميلة .. فلنسعد بما فيها ولنهنأ بما فيها ولكن لنحذر من أن ننسى أنها دار بلاء واختبار
ففيها الفقير ليختبر صبره والغني ليختبر شكره وعدم تقديم شهواته على أوامر ربه (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
من مشاكلنا التي نعيشها أننا لا نقرأ القرآن بوعي! قراءتنا القرآن بوعي سينتج:
المرأة التي فهمت سبب خلقتها في الحياة الدنيا لا تتعرى في الداخل كان أم في الخارج..
الشاب الذي فهم الحياة الدنيا لا يستهتر بأرواح المسلمين فيسير بسيارته كيفما شاء وحيثما أراد..
الرجل الذي فهم مراد الله من خلقه لا يأكل أموال الناس أو يزور أو يسيء الظن في المسلمين والمسلمات..
لماذا يضرب الله في أكثر من موضع تشبيه الدنيا بالماء؟
قـــــــــــال تعالى : { إِنَّمَا مَثَل الْحَيَاة الْدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاه مِن الْسَّمَاء فَاخْتَلَط بِه نَبَات الْأَرْض مِمَّا يَأْكُل الْنَّاس وَالْأَنْعَام حَتَّى إِذَا أَخَذَت الْأَرْض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَت وَظَن أَهْلُهَا أَنَّهُم قَادِرُوُن عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلَا أَو نَهَارا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيْدا كَأَن لَم تَغْن بِالْأَمْس كَذَلِك نُفَصِّل الْآَيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُوْن } [يُوْنُس:24].
وَقَــــــــــــال تَعَالَى أَيْضا : { وَاضْرِب لَهُم مَّثَل الْحَيَاة الْدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاه مِن الْسَّمَاء فَاخْتَلَط بِه نَبَات الْأَرْض فَأَصْبَح هَشِيَما تَذْرُوْه الْرِّيَاح } [الْكَهْف: مِن الْآَيَة45]
قال الحكماء: “شبّه الله – سبحانه وتعالى – الدُّنيا بالماء:
1- ﻷنّ الماء ﻻ يستقرّ في موضع، كذلك الدُّنيا ﻻ تبقى على حالٍ واحدة.
2- وﻷنّ الماء يذهب وﻻ يبقى، فكذلك الدنيا تفنى. ولا تبقى.
3- وﻷنّ الماء ﻻ يَقدر أحدٌ أن يدخلَه وﻻ يبتلّ، وكذلك الدُّنيا ﻻ يسلم أحدٌ من فتنتها وآفتها.
4- وﻷنّ الماء إذا كان بقدرٍ كان نافعًا مُنبتًا، وإذا جاوز المقدارَ كان ضاراًّ مُهلكًا، وكذلك الدُّنيا ؛ الكفافُ منها ينفع، وفضولُها يضرّ”. [الجامع ﻷحكام القرآن للقرطبيّ 289/13]
وَأَيْضا لَا يَقْدِر أَحَد أَن يَرُد الْمَطَر كَذَلِك لَا يَقْدِر أَحَد أَن يَرُد الْرِّزْق..
وَقِيْل الْمَاء قَلِيْلُه رَى لِلْعَطْشَان وَكَثِيْرِه دَاء كَذَلِك الْدُّنْيَا..
وَقِيْل الزَّرْع يُفْسِد بِالْمَاء الْكَثِيْر كَذَلِك الْقَلْب يُفْسِد بِالْمَال الْكَثِيْر..
وَأَيْضا الْمَاء كُلَّه لَا يَكُوْن صَافِيا كَذَلِك الْمَال فِيْه الْحَلَال وَالْحَرَام وَالْشُّبْهَة..
وَأَيْضا الْمَاء يُطَهِّر الْنَّجَاسَات كَذَلِك الْمَال الْطَّيِّب الْحَلَال يُطَهِّر دَنَس الْآَثَام..
ـ قد تلبس الأرض ثوباً أخضر فيه من كل أنواع الزينة والأعشاب والأزهار الطبيعية وجداول الماء فأشجار تتعانق في العلو ، وأعشاب تتسابق في فرش الأرض بمنظر يزيل الهم حتى يصل الأمر إلى أن الحقائق التي عند بعض الناس قد تتزعزع فيظن المسكين أن هذا المنظر لا فناء له ، فمتى يفنى منظر بهذه الصورة، وكيف ؟ ! كما قال الله عن بعض المخدوعين: ” وظن أهلها أنهم قادرون عليها ” فتبدلت حتى حقيقة الفناء التي يؤمن بها الجميع لكن لم تتبدل تلك الحقيقة إلا لمؤثر أكبر، وهو شدة ما رأى مما يبهر العقل من ذلك المنظر .
وكذلك الدنيا قد تقبل على شخص وتنفتح عليه حتى يظن أنها لن تدبر ، بل وكيف تدبر ؟! وفي النهاية يتبين أنها غرور وخداع لا يملك منها شيء .
الآيات التي صورت الحياة الدنيا ذلك التصوير تربي المسلم على التوازن في حياته، وبيان ذلك كما يلي:
قررت الآيات أن الدنيا فانية متاع زائل لا قيمة لها، لا تطلب ولا يركض وراءها.
ومع ذلك جاءت آيات تحث المسلم على العمل والكدح وطلب الرزق والضرب في الأرض. (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا..)
فهذان الخطابان يربيان في المسلم كيف يوازن بين الأمور والأدلة، فيعيش في الحياة الدنيا ويطلب رزقه ومع ذلك لا تدخل الدنيا قلبه ولا يتعلق بها.
فيعمل المسلم ويتاجر ويكدح ويجمع الأموال، لكنها تجتمع في يديه دون قلبه، ولذلك لا يحزن لفوت شيء منها ولا يفرح باجتماعها؛ لأنها لم تدخل قلبه، فضلاً أن يوالي لها ويعادي، ويغضب ويرضى لأجلها.
(تلك الدار الآخرة نجعلها..)
لا مقارنة أبداً بين الدنيا والدار الباقية دار السلام ” الجنة “، ومن تأمل النصوص ظهر له ذلك جلياً، فمثلاً:
أ ـ قال – صلى الله عليه وسلم-: “موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها” رواه مسلم.
ب ـ قال – صلى الله عليه وسلم – عن الحور العين: “ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها” رواه مسلم.
ج ـ قال – صلى الله عليه وسلم-: “يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال: هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤس قط” رواه مسلم.
تعليقات
إرسال تعليق